تنبيهات في غاية الأهمية، حول الدعوة إلى العامية :
نظرا لما يشهده الفضاء الأزرق من ردود الأفعال حول بعض المقررات الدراسية في المغرب التي تحوي عبارات وأساليب، وكلمات دارجة، وما فيها من استفزاز صريح ومتعمد للأمة؛ وسعي لنشر استعمال العامية (الدارجة) في مجال حساس جدا، ومؤثر جدا وهو مجال التعليم؛
نظرا لكل ذلك، أرى من الواجب عليّ بيانَ بعض ما يتعلق بذلك، والتنبيه على مسائل مهمة حول قضية الدعوة إلى استبدال الدارجة بالفصحى :
1. أولا : هذه الدعوة (استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير)، ليس وليد السنين الأخيرة، بل هي قديمة نسبيا. ومن الكتب النافعة [جدا] في دراسة تاريخ هذه الدعوة، كتابُ الدكتورة نفوسة زكرياء المسمى "تاريخ الدعوة إلى العامية في مصر".
والكتاب يتناول بالدراسة حال مصر، لكن التشابه بين الدعوتين في مصر والمغرب متقاربتان من حيث المنطلقات والحيثيات، ومن حيث، ومن تحيث الوسائل والخطوات، ومن حيث الأهداف والغايات .
وهذا الكتاب نادر جدا لا يكاد الباحث عنه يجده، وهو في عداد الكتب المفقودة، والنسخة الإلكترونية المتوفرة على النت رديئة الجودة. (فما السبب يا ترى؟!).
2. ثانيا : هذه الدعوة المشبوهة تظهر بأشكال مختلفة، وتحت صور ظاهرها التباين، لكنها تقوم على نفس الأصل، محاولة إقصاء اللغة العربية بين الناس.
ومن صورها الدعوة إلى استعمال الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية (*) -بسبب صعوبتها وتعقيدها، زعموا -. وليرجع القارئ [لزاما، وإلا ففضلا] إلى كتاب العلامة المحدث المحقق أحمد شاكر الذي سماه "الشرع واللغة" (وهو صغير الحجم)، ففيه أجوبة نافعة على بعض ما يُشغَّب به على أهل الفصحى.
3. ثالثا : الدوافع وراء هذه الحركة ليست بريئة، كما يزعم أصحابها، ولا وطنية كما يدّعي أربابها. بل وراءها مؤسسات خارجية تتخفى ببعض الدمى التي تحركها من بني جلدتنا، وتسيرها من وراء حجاب.
وهي دعوة استشراقية استعمارية خطيرة يجب الحذر واليقظة في التعامل معها. وللاستزادة في هذا الموضوع، أرى من الواجب على كل مسلم قراءة كتاب "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، للعلامة المحقق الأديب محمود محمد شاكر، ففيها بيان لخطورة هذه الدعوى وبعض مظاهرها(**).
4. رابعا : يعمل أصحاب هذه الدعوة على عدة أصعدة، وليس ذلك قاصرا على التعليم فقط. ولقد كنت أتابع بعض التحولات التي ظهرت في سياسات بعض المؤسسات والشركات في استعمال الدارجة مكان الفصحى، وأتعجب كيف تغير الوضع بتَخَفٍّ يبعث على التهمة، وتدرج في التدريج، لكي يتقبله الناس.
ومن مظاهره تغيير المجيب الآلي لبعض شركات الاتصال (ميديتل/أورونج نموذجا). فبعد أن كان الجواب الآلي "يتعذر الاتصال بمخاطبكم، المرجو إعادة النداء لاحقا"؛ صار الآن "المخاطب ديالكوم مشغول دابا". وتجده بشكل أكثر انتشارا في اللوحات الإشهارية للشركات الأجنبية مثل كوكاكولا وغيرها. وأما المؤسسات العمومية فلم أره إلا في بعض لوحات المكتب الوطني للسكك الحديدية.
5. خامسا : ردود الفعل الصادرةُ عن طوائف المجتمع لا تنبئ بوعي حقيقي بحجم الخطر، ولا بنتائج هذه الحركة وأمثالها. ولا أرى أقرب شبها بهاته الحالة من الطفل الذي يضربه والده، فيبكي في أول الأمر بشدة، ثم يخف بكاؤه وينسى بعد مدة قليلة، ثم يأتي أباه ضاحكا كأنْ لم يكن بينهما شيء.
وهذا -و إن كان محمودا في الطفل- ، فليس بمحمود قطعا، بل هو قبيح جدا، أن يكون لدى الأمة "عقل طفل" و "رد فعل طفولي" تجاه هاته الاستفزازات الخطيرة. فترى الناس يبدون ردودا قوية بادئ الأمر، ثم يلبثون حتى ينسوا ما كانوا فيه، والأعداء يخططون وينفّذون بخطى حثيثة لا تكل ولا تمل (***).
هذا بعض ما تيسرت كتابته، على عجل، ودون مراجعة، فلعل القارئ الكريم يغتفر ما فيه من زلات الأنامل.
وأرجو أن ييسر الله لي العودة إلى هذا الموضوع فيما بعد.
وكتبه : أبو الوليد
غفر الله له ولوالديه
في مراكش الحمراء
الاثنين 29 من ذي الحجة الحرام لعام 1439ه
الموافق : 10 شتنبر/أيلول 2018م
-------------ا-------------
(*) ولقد كنت أعجب من بعض الأطروحات التي تثار لما كنا في الجامعة منذ أزيد من عقد من الزمن، حين كان بعض أعضاء فصيل الحركة الثقافية الأمازيغية، وبعض ناشطيها، يدعون إلى استعمال الحروف اللاتينية بدل تيفيناغ. فكنت أقول : لماذا اللاتينية؟ ولما لا نختار الحروف العربية؟ وأكثر الناس يجيد قراءتها، والجهل بالفرنسية متفشٍّ بين طلبة الجامعات في التخصصات العلمية، بله الأدبية، فضلا عمن دونهم من الناس.
حتى اطلعت على كتاب الشرع واللغة، المذكور في العارضة الثانية، ففهمت بعض خفايا القضية. فالحمد لله.
(**) وللمؤلف كتاب آخر نافع أيضا، وهو "أباطيل وأسمار"، وقد تحدث فيه عن قضية العامية بتفصيل أكثر مما تجده في الرسالة المذكورة، فليراجع.
(***) ولعل القارئ المغربي يتذكر موجة الردود التي أثارتها التغييرات (الإصلاحات ؟؟؟) التي عرفها مقرر التربية الإسلامية العام الماضي، في مثل هذا الوقت، من كثر الرسائل والمنشورات، والصور المفبركة للمقررات، والكاريكاتورات الساخرة، في صورة مشابهة، بل مطابقة لما نراها في هاته الأيام. فما لبث الناس حتى نسوا، وتم إدراج التغييرات خفية، ولعل آخرها هو حذف سورة الفتح من المقررات.
فالله المستعان.
2018-09-10
تنبيهات في غاية الأهمية، حول الدعوة إلى العامية
مرسلة بواسطة
مدونة أبي الوليد
في
11:40 م
مواضيع ذات صلة
المكان:
Marrakech, Morocco
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق